كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط ، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه ، وهناك تسعة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس
قال الله تعالى :
( وَالكَاظِمِينَ الغَيْظُ وَالعَافِيْنَ عَنِ النَاسِ وَاللهُ يُحِبُ المُحْسِنِينْ) [ ال عمران ]
أولاً : الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به .
قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم - :
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر) [آل عمران : 159] .
وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي : أن الناس يجتمعون على الرفق واللين ، ولا يجتمعون على الشدة والعنف
فلا بد من تربية النفس على الرضا ، والصبر، واللين ، والمسامحة ؛ هي قضية أساسية ، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليمًا .
قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّما العلمُ بالتعلُّم ، وإِنما الحِلْمُ بالتحلُّمِ ، مَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ ، ومَنْ يَتَّقِ الشرَّ يُوقَه ُ" .
فعليك أن تنظر في نفسك وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين ، وتتذكر أن تحية الإسلام هي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم - أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا ، بل قال الله سبحانه وتعالى - : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) [النور: من الآية61] .
لهذه التحية معان ، ففيها معنى السلام : أن تسلم مني ، من لساني ومن قلبي ومن يدي ، فلا أعتدي عليك بقول ولا بفعل ، وفيها الدعاء بالسلامة ، وفيها الدعاء بالرحمة ، وفيها الدعاء بالبركة … هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا ، وعلاقتنا مع الآخرين .
ثانيًا : من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة ؛ مما يحمل الإنسان على العفو .
ولهذا قال بعض الحكماء : " أحسنُ المكارمِ ؛ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ " ، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه ؛ غفر له وسامحه ، ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) [الشورى:43] .
وقال صلى الله عليه وسلم لقريش : " مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ ؟ " قَالُوا : خَيْرًا ! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ : " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " .
وقال يوسف لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه : ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف:92].
ثالثًا : شرف النفس وعلو الهمة ، بحيث يترفع الإنسان عن السباب ، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام .
أي : لابد أن تعوِّد نفسك على أنك تسمع الشتيمة ؛ فيُسفر وجهك ، وتقابلها بابتسامة عريضة ، وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ .
قال تعالى :
( ولاتَسْتَوي الحَسَنةُ ولاَ السْيّئَةُ إِدْفَعْ بِالتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كَأَنَهُ وَلِيٌّ حَمِيمْ ، وَمَايُلقَّاهَا إِلاَ الذِينَ صَبَرُوا وَمَايُلقَّاهَا إِلاَ ذُو حَظٍ عَظِيمْ ) ، فصلت [ 34 - 35 ]
رابعًا : طلب الثواب عند الله .
إنّ جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله - سبحانه وتعالى - لها ما لها عند الله - عز وجل - من الأجر والرفعة .
فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ " ،
والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئًا ، وأعتقد أن أي واحد يستطيع أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع ، لكن يتغير الحال بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين فتفاجأ بأن بين القول والعمل بعد المشرقين .
خامسًا : استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ .
وقد قال بعض الحكماء : " احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه " .
وقال بعض الأدباء : " مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ " .
سادسًا : التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان .
إن هذه العضلة التي في صدرك قابلة للتدريب والتمرين ، فمرّن عضلات القلب على كثرة التسامح ، والتنازل عن الحقوق ، وعدم الإمساك بحظ النفس ، وجرّب أن تملأ قلبك بالمحبة !
فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعًا فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم ، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد ، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة .
فمرّن عضلات قلبك على التسامح في كل ليلة قبل أن تخلد إلى النوم ، وتسلم عينيك لنومة هادئة لذيذة .
سامح كل الذين أخطؤوا في حقك ، وكل الذين ظلموك ، وكل الذين حاربوك ، وكل الذين قصروا في حقك ، وكل الذين نسوا جميلك ، بل وأكثر من ذلك .. انهمك في دعاء صادق لله - سبحانه وتعالى - بأن يغفر الله لهم ، وأن يصلح شأنهم ، وأن يوفقهم .. ؛ ستجد أنك أنت الرابح الأكبر .
وكما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم بضع مرات أو أكثر من عشر مرات ؛ لأنك تواجه بهما الناس ؛ فعليك بغسل هذا القلب الذي هو محل نظر ا لله - سبحانه وتعالى - !
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) أخرجه مسلم .
فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة .
اغسل هذا القلب ، وتعاهده يوميًّا ؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد ، والكراهية ، والبغضاء ، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيودًا تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل ، ومن أن تتمتع بحياتك .
سابعًا : قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم ، وهذا لا شك أنه من الحزم .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً ؛ لَسَمِعْت عَشْرًا !
فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا؛ لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً !
وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الأَذَى *** وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقَا
فَتَنْدَمَ إذْ لَا تَنْفَعَنكَ نَدَامَةٌ *** كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقَا
وبالخبرة وبالمشاهدة فإن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت ، فبالصمت حفظت لسانك , ووقتك , وقلبك ؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام : " فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا " [مريم: من الآية26].
والكلام والأخذ والعطاء ، والرد والمجادلة تنعكس أحيانًا على قلبك ، وتضر أكثر مما تنفع .
ثامنًا : رعاية المصلحة ؛
ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم - على الحسن رضي الله عنه بقوله : ( ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أخرجه البخاري .
فدل ذلك على أن رعاية المصلحة التي تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع , وتجنب المخالفة هي السيادة .
تاسعًا : حفظ المعروف السابق , والجميل السالف .
ولهذا كان الشافعي - رحمه الله - يقول : إِنَّ الْحُرَّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَ لَفْظَةً .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ ) وأمثلة ذلك كثيرة .
دمتم بخير